فصل: سورة الزلزلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة القدر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
{إنا أنزلناه في ليلة القدر}، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى، وهو ضمير القرآن. قال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. وقال الشعبي وغيره: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر. وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان. وقيل المعنى: إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها. ولما كانت السورة من القرآن، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه: لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن. وقال الزمخشري: عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وسميت ليلة القدر، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال الزهري: معناه ليلة القدر العظيم والشرف، وعظم الشأن من قولك: رجل له قدر. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل، وترده عظيماً عند الله تعالى. وقيل: سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر. وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر. وقيل: لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق. وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً، وبعضهم قال: رفعت، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع، وأن العشر الأخير تكون فيه، وأنها في أوتاره، كما قال عليه الصلاة والسلام: «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة» وفي الصحيح: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». {وما أدراك ما ليلة القدر}: تفخيم لشأنها، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها، ثم بين له ذلك. قال سفيان بن عيينة: ما كان في القرآن {وما أدراك}، فقد أعلمه، وما قال: وما يدريك، فإنه لم يعلمه. قيل: وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها. والظاهر أن {ألف شهر} يراد به حقيقة العدد، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام. والحسن: في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور، والمراد: {خير من ألف شهر} عار من ليلة القدر، وعلى هذا أكثر المفسرين.
وقال أبو العالية: {خير من ألف شهر}: رمضان لا يكون فيها ليلة القدر. وقيل: المعنى خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها، قال تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} يعني جميع الدهر. وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمه الأمر لمعاوية فقال: إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة، فاهتم لذلك، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وهي خير من مدة ملوك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان. قال القاسم بن الفضل الجذامي: فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً. وخرج قريباً من معناه الترمذي وقال: حديث غريب، انتهى. وقيل: آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم. وذكر أيضاً في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة، إن أحيوها، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق: ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة، فصار ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
{تنزل الملائكة والروح}: تقدم الخلاف في الروح، أهو جبريل، أم رحمة ينزل بها، أم ملك غيره، أم أشرف الملائكة، أم جند من غيرهم، أم حفظة على غيرهم من الملائكة؟ والتنزل إما إلى الأرض، وإما إلى سماء الدنيا. {بإذن ربهم}: متعلق بتنزل {من كل أمر}: متعلق بتنزل ومن للسبب، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. {وسلام}: مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي، أي هي سلام إلى أول يومها، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء، وهذا على قول من قال: إن تنزلهم التقدير: الأمور لهم. وقال أبو حاتم: من بمعنى الباء، أي بكل أمر؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي: من كل امرئ، أي من أجل كل إنسان. وقيل: يراد بكل امرئ الملائكة، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة. وأنكر هذا القول أبو حاتم. {سلام هي}: أي هي سلام، جعلها سلاماً لكثرة السلام فيها.
قيل: لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة. وقال منصور والشعبي: سلام بمعنى التحية، أي تسلم الملائكة على المؤمنين. ومن قال: تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة، جعل الكلام تاماً عند قوله: {بإذن ربهم}. وقال: {من كل أمر} متعلق بقوله: {سلام هي}، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام. وقال مجاهد: لا يصيب أحداً فيها داء. وقال صاحب اللوامح: وقيل معناه هي سلام من كل أمر، وأمري سالمة أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر. كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول، انتهى.
وعن ابن عباس: تم الكلام عند قوله: {سلام}، ولفظة {هي} إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة، انتهى. ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى. وقرأ الجمهور: {مطلع} بفتح اللام؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو: بخلاف عنه بكسرها، فقيل: هما مصدران في لغة بني تميم. وقيل: المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز.

.سورة البينة:

.تفسير الآيات (1- 8):

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
لما ذكر إنزال القرآن، وفي السورة التي قبلها {اقرأ باسم ربك} ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك. وقرأ بعض القراء: والمشركون رفعاً عطفاً على {الذين كفروا}. والجمهور: بالجر عطفاً على {أهل الكتاب}، وأهل الكتاب اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان من العرب. وقال ابن عباس: أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها.
قال مجاهد وغيره: لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة. وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة، فتفرقوا عند ذلك. وقال الزمخشري: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث: لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله ما كانوا يقولونه. وقال ابن عطية: ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أنه يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى، انتهى. وقيل: لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. والظاهر أن المعنى: لم يكونوا منفكين، أي منفصلاً بعضهم من بعض، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه، هذا من اعتقاده في شريعته، وهذا من اعتقاده في أصنامه، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة.
وقيل: معنى منفكين: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وأن ينفصل فلا يلتئم، والمعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، انتهى. ومنفكين اسم فاعل من انفك، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر. وقال بعض النحاة: هي الناقصة، ويقدر منفكين: عارفين أمر محمد صلى الله عليه وسلم، أو نحو هذا، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً، نص على ذلك أصحابنا، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو، وقالوا في قوله: حين ليس مجير، أي في الدنيا، فحذف الخبر أنه ضرورة، والبينة: الحجة الجليلة.
وقرأ الجمهور: {رسول} بالرفع بدلاً من {البينة}، وأبيّ وعبد الله: بالنصب حالاً من البينة.
{يتلو صحفاً}: أي قراطيس، {مطهرة} من الباطل. {فيها كتب}: مكتوبات، {قيمة}: مستقيمة ناطقة بالحق. {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب}: أي من المشركين، وانفصل بعضهم من بعض فقال: كل ما يدل عنده على صحة قوله. {إلا من بعد ما جاءتهم البينة}: وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها. وقال الزمخشري: كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال أيضاً: أفرد أهل الكتاب، يعني في قوله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} بعد جمعهم والمشركين، قيل: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقاً، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر. وقال: ليس به ومنهم من عرف وعاند. وقال ابن عطية: ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من العرب حسدوه، انتهى.
وقرأ الجمهور: {مخلصين} بكسر اللام، والدين منصوب به؛ والحسن: بفتحها، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم. وانتصب {الدين}، إما على المصدر من {ليعبدوا}، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط في، أي في الدين، والمعنى: وما أمروا، أي في كتابيهما، بما أمروا به إلا ليعبدوا. {حنفاء}: أي مستقيمي الطريقة. وقال محمد بن الأشعب الطالقاني: القيمة هنا: الكتب التي جرى ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة، كانت الألف واللام في القيمة للعهد، كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} وقرأ عبد الله: وذلك الدين القيمة، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنث، على أن عنى بالدين الملة، كقوله: ما هذه الصوت؟ يريد: ما هذه الصيحة: وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء، والبرية: جميع الخلق. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع: البرئة بالهمز من برأ، بمعنى خلق. والجمهور: بشد الياء، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سهل بالإبدال وأدغم، واحتمل أن يكون من البراء، وهو التراب. قال ابن عطية: وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مرضي، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا، وهو التراب، فلا يجعله خطأ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو: أو ننساها أو ننسها، فهو اشتقاق مرضي. وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به، وشر البرية ظاهره العموم. وقيل: {شر البريّة}: الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء، كفرعون وعاقر ناقة صالح. وقرأ الجمهور: {خير البرية} مقابل {شر البرية}؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد: خيار البرية جمع خير، كجيد وجياد. وبقية السورة واضحة، وتقدم شرح ذلك إفراداً وتركيباً.

.سورة الزلزلة:

.تفسير الآيات (1- 8):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
لما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار، وجزاء المؤمنين، فكأن قائلاً قال: متى ذلك؟ فقال: {إذا زلزلت الأرض زلزالها}. قيل: والعامل فيها مضمر، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره: تحشرون. وقيل: اذكر. وقال الزمخشري: تحدث، انتهى. وأضيف الزلزال إلى الأرض، إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل؛ والفرق بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته واضح. وقرأ الجمهور: {زلزالها} بكسر الزاي؛ والجحدري وعيسى: بفتحها. قال ابن عطية: وهو مصدر كالوسواس. وقال الزمخشري: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف، انتهى. أما قوله: والمفتوح اسم، فجعله غيره مصدراً جاء على فعلال بالفتح. ثم قيل: قد يجيء بمعنى اسم الفاعل، فتقول: فضفاض في معنى مفضفض، وصلصال: في معنى مصلصل. وأما قوله: وليس في الأبنية الخ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف، قالوا: ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف.
{وأخرجت الأرض أثقالها}: جعل ما في بطنها أثقالاً. وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد: أثقالها: كنوزها وموتاها. ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال، لا يوم القيامة، وقائل ذلك يقول: هو الزلزال يكون في الدنيا، وهو من أشراط الساعة، وزلزال: يوم القيامة، كقوله: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} فلا يرد عليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه. ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها. وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله «تلقى الأرض أفلاذ كبدها» أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. وقال ابن عباس: موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.
{وقال الإنسان ما لها}: يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان. وقيل: ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمناً بالبعث، فإنه استهول المرأى. وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان» قال الجمهور: الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن. {يومئذ}: أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث، ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل. {تحدث أخبارها}: الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما. ويشهد له ما جاء في الحديث: «بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة».
، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ثم قال: «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها» هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال الطبري: وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه. وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة. وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني. وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهم عند سؤالهم. وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.
{بأن ربك أوحى لها}: أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها، كما تقول: نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه. وقال أيضاً: ويجوز أن يكون {بأن ربك} بدلاً من {أخبارها}، كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى.
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول: استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائداً، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض:
أوحى لها القرار فاستقرت ** وشدها بالراسيات الثبت

فعداها باللام. وقيل: الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال.
واللام في لها للسبب، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها. وإذا كان الإيحاء إليها، احتمل أن يكون وحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة. {يومئذ يصدر الناس}: انتصب يومئذ بيصدر، والصدر يكون عن ورد. وقال الجمهور: هو كونهم في الأرض مدفونين، والصدر قيامهم للبعث، و{أشتاتاً}: جمع شت، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض، {ليروا أعمالهم}. وقال النقاش: الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، ووردهم هو ورد المحشر. فعلى الأول المعنى: ليرى عمله ويقف عليه، وعلى قول النقاش: ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار. والظاهر تعلق {ليروا} بقوله {يصدر}. وقيل: بأوحى لها وما بينهما اعتراض. وقال ابن عباس: أشتاتاً: متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الأيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقال الزمخشري: أشتاتاً: بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، انتهى. ويحتمل أن يكون أشتاتاً، أي كل واحد وحده، لا ناصر له ولا عاضد، كقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} وقرأ الجمهور: {ليروا} بضم الياء؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية: بفتحها، والظاهر تخصيص العامل، أي {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً} من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميم {ومن يعمل مثقال ذرة شراً} من الفريقين، لأنه تقسم جاء بعد قوله: {يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم}. وقال ابن عباس: قال هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه. ونبه بقوله: {مثقال ذرة} على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً، وهذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم، كقوله: {فلا تقل لهما أف} والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل: بدل من مثقال. وقرأ الجمهور: بفتح الياء فيهما، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب. وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه: بضمها؛ وهشام وأبو بكر: بسكون الهاء فيهما؛ وأبو عمرو: بضمهما مشبعتين؛ وباقي السبعة: بإشباع الأولى وسكون الثانية، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاها الكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل، وهذه الرؤية رؤية بصر. وقال النقاش: ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله. وقرأ عكرمة: يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم، والله تعالى أعلم.